"صحبة في الإيمان استمرت عبر الأجيال"
"متحدية حدود الزمان والمكان"
الكلمة التي ألقتها الدكتورة /ناجية عبد المغني سعيد في حفل تأبين العالمة الجليلة كاريس وادى Charis Waddy ، وذالك في يوم الجمعة الموافق السادس من مايو٢٠٠٥، بميدان بيلجراف، لندن ٠
"بسم الله الرحمن الرحيم
أعزائي السيدات والسادة، السلام عليكم٠
إنه يسعدني ويشرفني أن أكون ضمن هذا الحضور من الأصدقاء والأقارب في حفل تأبين الدكتورة وادي بلندن٠
لقد كانت الدكتورة وادي من أعظم الأصدقاء الشخصيين لعائلتي عبر ثلاثة أجيال، فقد كانت صديقة لوالدتي الأستاذة/عنايات ووالدي الأستاذ/عبد المغني سعيد، وصديقة لي ولأختى نوال، كما أن صداقتها امتدت لأبنائي. لقد كانت كاريس عالمة عظيمة الشان وباحثة مخلصة عن الحقيقة، ومقاتلة شجاعة من أجل السلام وتعميق الحوار٠ لقد حاربت بكل قلبها وروحها وعقلها وإمكانياتها من أجل ذالك٠
تحديها الحقيقي كان إسهامها في تقريب الشرق والغرب والقضاء على الانقسامات الموجودة بينهما، فهدفت التغلب على وقهر الاعتقادات الخاطئة وفجوات الجهل بينهما عن طريق بناء جسور من الثقة والتفاهم، وتظل مسئوليتنا في أن نستمر وأن نتواصل.
أني كصديقة ورفيقة جهاد للدكتورة وادي، أتذكر شجاعتها ومساندتها في عدة مناسبات ومواقف سواء في أوقات السعادة، أو في أوقات الحزن والأسى، ومثال لذلك عندما قمت أنا وأختي نوال بترجمة كتاب " عائلات سعيدة " إلى اللغة العربية، أرسلت لنا كاريس خطابا تشجعنا فيه وتهنئنا على ذلك العمل، وعند إندلاع الحرب في البوسنة والهرسك، وتأثري بها كتبت بعض الأشعار عنها وأرسلتها إلى الدكتورة وادي وكان ردها في خطاب مؤثر جدا قامت بإرساله لي، خطاب يعكس فيه اهتمامها العميق بالإنسانية وتخفيف المعاناة.
في عام ١٩٩٢، قمت أنا وزوجي الدكتور عبد المحسن فرحات وأبنائي بزيارة إلى بريطانيا، وبالطبع كانت فرحتي شديدة جدا لإني استطعت مقابلة كاريس بمنزلها في اكسفورد.
وكان سن وادي وقتها أكثر من ثمانين عاما ورغم ذلك كانت تتمتع بروح الشباب والحماس. وأنا أتذكر أحد المواقف لهذه السيدة العظيمة، عندما تم نشر مقالات خاطئة وغير دقيقة بإحدى الصحف البريطانية، والتي كانت تهدف لتشويه صورة المرأة في الدول الإسلامية. فقامت وادي فورا بعد قراءتها هذه المقالات إلى آلتها الكاتبة، وكتبت مقالا ترد فيه على ما نشر بهذه الصحيفة ودافعت بالمقال عن الحقيقة الخاصة بالمرأة في الدول الإسلامية كما وجدتها ولمستها بنفسها في هذه الدول من خلال زياراتها المتكررة لها.
وبعد مضي عشر سنوات ، وفي ٢٠٠٢ كان لي شرف مقابلة الدكتورة وادي مرة أخرى بدار ويستمينستر للمسنين في أكسفورد وكان عمرها حينئذ تخطى التسعين عاما، وعرضت عليها موضوعا قمت بكتابته بعنوان "السيدات صناع السلام" وكانت وادي ضمن هؤلاء السيدات الشهيرات التي قمت بالحديث عنهن والذي تكلمت فيه عن الدكتورة وادي كرمز رئيسي وكرائدة للسلام، وبناء جسور التفاهم والثقة عبر العالم كله وبعد قراءتها لذلك الموضوع، اقترحت د.وادي إرساله لسيدة مصر الأولى، السيدة سوزان مبارك، والتي تزعمت مؤخرا حركة عالمية بإسم " المرأة من أجل السلام " .
نالت الدكتورة وادي إحترام شديد من أصدقائنا في مصر وتمنى العديد من أصدقائنا بحركة التسلح الخلقي، إعادة نشر مؤلفات وكتب د. كاريس وادي، كما يأملون في أن يساعدوا في ترجمتها إلى اللغة العربية، ومن المحتمل أيضا إقامة ( تصميم ) موقع خاص لها على شيكة الإنترنت.
نحن لم ننظر إلى د. كاريس كمستشرقة، بل وجدنا فيها إمرأة ترمز للإيمان والفضل والسمو، وجدناها كباحثة مخلصة في المعرفة والحقيقة .... إمرأة أثرت في القلوب ونالت احترام العديد من مختلف أنحاء الكرة الأرضية .
لقد أدركت أن الحقيقة واحدة فاختارت هذه العبارة " العديد من الرسل ودينا واحدا" كعنوان لأحد فصول كتابها " العقل المسلم " ويعد ذلك شاهدا واضحا لإخلاصها وشجاعتها وإيمانها.
أدركت روح الدين، نقبت بعمق حتى تصل إلى روح وجوهر رسالة الله سبحانه للإنسانية، وأساس التوحيد والسلام الحقيقي
" طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله "( متى إصحاح ٥ آية ٨ الكتاب المقدس ـ العهد الجديد )
وفي اعتقادي أن ذلك يعني أيضا ، أنهم ليصلوا إلى الحقيقة و يرونها جلية بنور الله
حصلت كاريس على معلوماتها ومعرفتها من أناس حقيقيون ومن مصادر رئيسية (أولية ) موثوقة، لذلك كانت إكتشافاتها دقيقة وصحيحة، واستنتاجاتها قاطعة وعادلة، كانت معرفتها واسعة، ومشاعرها عميقة وبالتأكيد كانت ( فريدة ) كما وصفتها إلى مؤخرا السيدة دولت صدقي من الاسكندرية.
إن معرفتي بكاريس جعلتني أرى فيها نموذجا تطبيقيا لأول أمر أوحي للنبي محمد عليه الصلاة والسلام .. وهو "إقرأ " { إقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * إقرأ وربك الأكرم *الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } ولأول مرة استطعت أن أرى مدى التشابه، فالجنين كعلقة من الدماء ملتصقا برحم أمه يتغذى وينمو حتى يولد إلى العالم الواسع. والإنسان الباحث عن الحقيقة والمتمسك بها، يظل ينمو بالمعرفة ويدعم بفضل الله ...وذلك بالضبط ما كانت تقوم به كاريس.
لدينا مقولة شهيرة بالعربية "لا تسأل عن المرء واسأل عن صديقه " ، فمن كانوا أصدقاء كاريس ومن الذين زاملوها في الشرق والغرب: فرانك بوخمان مؤسس حركة التسلح الخلقي العالمية، راجموهان غاندي حفيد المهاتما غاندي، الكاتبة المحترمة ماري رولات، الملكة عفت أرملة الملك فيصل عاهل السعودية، عبد الخالق حسونة السكرتير العام لجامعة الدول العربية ما بين عامي (١٩٥٢ ـ ١٩٧١ )، الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر، محمد فاضل جمالي ـ العراق وتونس، وبنازير بوتو رئيس وزراء باكستان السابقة.
كانت كاريس معلمة ومصلحة ...آمنت بالتغيير، التغيير الآتي من الداخل وليس المفروض من الخارج، وفي إحدى مقالات الدكتورة وادي عام ١٩٧٩، وجهت عبارة إلى الملكة عفت السعودية قائلة فيها " إنك لا تستطيع تغيير عقليات الناس بالمراسيم الملكية ولا بالمال" وقد بدأت الملكة عفت وزوجها الملك فيصل مسيرة التعليم الرسمي للنساء في السعودية.
(زارت) عاشت كل من الدكتورة وادي ووالدتي بالقدس في أوقات مختلفة قبل عام ١٩٤٨ . وقد عادت والدتي إلى القدس في ١٩٥٥، وكاريس في عام ١٩٦٧ وكان لديهما أصدقاء مشتركون مثل عائلة الخالدي وعلى رأسها سامح بك الخالدي عميد الكلية العربية. وقد اشتركا الإثنان في رؤية القدس كمدينة للسلام وكأمل لكل الإنسانية، القدس كمدينة يسكن بها أتباع إبراهيم عليه السلام ويصلون بها، تلك هي الصحبة الإيمانية كما وصفها من مطلع القرن العشرين نيافة الأب ستاسي وادي والد كاريس بأنها رفقة الإيمان المشترك
" اسألوا سلامة أرشليم ليسترح محبوك . ليكن سلام في أبراجك وراحة في قصورك . من أجل أخوتي وأصحابي لأقولن سلام بك . من أجل بيت الرب إلهنا ألتمس لك خيرا (مزامير العهد القديم ، صحاح ١٢٢أية ٦ ـ ٩ ).
لقد كان حزننا عميقا عندما علمنا بوفاة كاريس وادي في التاسع والعشرون من إغسطس عام ٢٠٠٤، وشعر كل من عرفها بخسارة عظيمة لفقدانها. عزائنا الوحيد هو أن وادي عاشت حياتها بالكامل، وكانت ذو فائدة عظيمة لأسرتها الكبيرة عبر العالم، وأنها عملت على نشر السلام والحب والإيمان بالله، وستظل وادي حية بيننا بكلماتها وأعمالها التي ستظل لفترة طويلة مطبوعة في أذهاننا عبر الأجيال القادمة.
وكما يقول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام " إذا مات ابن آدم أنقطع عمله إلا من ثلاث، ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية، أو علم ينتفع به "
ولو كان لكاريس أي أبناء لن يكون لها كل هؤلاء الأبناء المتمثلون فينا نحن، فقد جادت كاريس كل ما في قلبها وثروتها لتترك لنا هذه المعرفة المفيدة والتي ستستمر لخدمة الأجيال القادمة
وقد بلغ إلى علمنا أن آخر كلمات الدكتورة كاريس وادي قبل وفاتها كانت باللغة العربية "الحمد لله " ولا نستطيع أن نجد أي طريقة أفضل لوصف مدى إيمان وادي إلا بكلمات الله عز وجل في قرآنه الكريم
{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم * دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } (سورة يونس آية ٩ ، ١٠)